إن واقعة مسجد آية صوفيا الذي تحول من متحف إلى مسجد وقد كان قبل كنيسة في عهد جوستنيان البيزنطي. يعتبر نموذجا لثقافة عدم احترام التراث الإنساني الذي كانت الدول في القرون الوسطى تمارسه بهدف الانتقام كواقعة تغيير المساجد الأندلسية إلى كنائس في فترة الطرد الذي تعرض لها المورسكيون نذكر على سبيل المثال تحويل جامع قرطبة الكبير إلى كاتدرائيّة في القرن الثامن تحت حكم فردينان الثالث القديس .
لكن من جهة أخرى هنالك بعض الاشارات التي تلفت نظر الباحث فيما يخص خطة مقاومة هذه الآثار لعوامل الطمس التي تتعرض لها والتي هي عن قصد أو دونه تستمر شيفرتها في جلباب الحضارات الجديدة في انتظار نضوج الوعي الانساني لإرجاع الهوية الأصلية للمعلمة. فما الشيفرة التي تحملها تسمية آية صوفيا؟
قبل الإجابة يفترض طرح سؤال عن سر استمرار عادة اختيار رموز أو مفاهيم أومعابد سابقة لإنشاء ديانة جديدة وفيما إن كان له علاقة بمستوى الوعي العام.
هذه العادة البائدة التي دأبت على ممارستها الحضارات السابقة بما فيها المسيحية والإسلامية بل حتى اليهودية في بعض المحطات.
بجرد سريع للتسلسل التاريخي للأديان نجد بعض الديانات اللاحقة تتقمص رموز الديانات السابقة وتصبغ عليها مفاهيمها الجديدة فاليهود مثلاً اتخذو "إيل" الإله الكنعاني مع إضافة الجمع إيلوهيم ودمروا معابد عشتار أشيرا الإلهة الأنثى ليتركوا المذكر فقط على مبانيها.
أما المسيحيون فقد بنيت كل أسسهم على بقايا المفاهيم اليهودية في العقيدة كمفهوم المسيانية لكن في فترة القوة والسياسة مع الدولة البيزنطية ورثت المسيحية كل اللاهوت الروماني (الوثني) وتحولت طقوس وأعياد الآلهة إلى أعياد مسيحية فعيد ميلاد اله الشمس "سول إنفكتوس" في الإمبراطورية الرومانية في 25 دجنبر أصبح عيد ميلاد المسيح. وهكذا..
إذن فبناء ثقافة جديدة لابد يتكئ على بقايا الثقافات السابقة واعتماد الرموز السابقة يمنح اللاحق ربحا للوقت وتماهيا مع العرف السائد ما يزيد من فرص مقبوليتها ويقلل من حدة المعارضة.
الشيفرة الخالدة التي قاومت الطمس الهوياتي بمسجد اية صوفيا.؟
من أول وهلة نجد أن تسمية مسجد بشخصية مؤنثة نادر وغير معتاد فكيف بشخصية مؤنثة وغير عربية ومجهولة؟
فما هو تاريخ هذه الشخصية "صوفيا" وما تاريخ البناية/ المسجد :
حسب موسوعة لاروس ففي سنة 325 قام قسطنطين ببناء اول كنيسة على أنقاض "معابد وثنية" . وتردف الموسوعة ان اسم الكنيسة يوناني مايدل على أصول وثنية يونانية للتسمية.
وفي ماي1453 أي في الفترة العثمانية حول محمد الثاني الكنيسة إلى مسجد وبنى من جاء خلفه منارات وإضافات اسلامية أخرى بالبناء إلى أن حولها اتاتورك لمتحف سنة 1934. ليقوم أردوغان اليوم بتحويلها لمسجد من جديد.
إن الأمر الذي يجعل البحث عن هوية هذا البناء الأثري ذو معنى تشبث كل اصحاب ديانة بانتماء البناء لهويتهم فهل البناء مسيحي أم إسلامي؟ أم أنه لا هذا ولا ذاك.
لمعرفة ذلك دعونا نرى شيفرة التسمية التي بقيت من الطمس الهوياتي المزدوج الذي تعرضت له البناية.
إن قسطنطين الذي حول دولة كاملة إلى ديانة جديدة لم يكن بوسعه محو كل شيء فالذاكرة الشعبية لا تقبل التغير المفاجئ لهذا وعملا بمنطق التدرج قام بتغيير اسم المحتفى به في عيد إله الشمس وعوضه بعيد ميلاد يسوع وترك نفس التاريخ الذي إعتاد الناس عليه. واحتفظ باسم الإلهة اليونانية صوفيا لكنه غير المحتوى أي بدل عبادة الآلهة بالصلوات المسيحية.
واستمرت هذه البصمات الرومانية في التراث العرفاني المسيحي رغم اضطهاده وبقيت التسمية الوثنية حتى بعد العصر العثماني فصار مسجد "آية صوفيا" دون الانتباه للدلالة التي يرمز إليها هذا الإسم.
صوفيا في التصوف المسيحي:
تحتفظ المذاهب الباطنية بأسرار تاريخية تؤولها إلى عقائد غامضة لكن تحليل بعضها يكشف لنا لغز التسمية.
فالعرفان المسيحي أي الغنوصية وهو مذهب باطني شديد الباطنية ومرفوض من قبل الكنيسة يحمل في طياته بذورا تكشف كيف أن ديانة آلهة الرومان شكلت عمودا فقريا للديانة القسطنطينية اي مسيحية القرن الثالث.
فالنظرة الباطنية تستمد شرعيتها من أناجيل سابقة مرفوضة من الكنيسة الرسمية وتعتبرها أبوكريفا أي منحولة ربما بهدف القطع مع كل ما يربط المسيحية بمكوناتها التراثية اي الرومانية.
فإنجيل يهوذا وإنجيل المجدلية مليئان بالتصور الغنوصي للذات الإلهية اليسوعية. هذا التصور الذي يمتح من اديان مثنوية أخرى كانت سائدة في العالم المسيحي كالمانوية.
وشاهد حديثنا هو الدور المحوري الذي تلعبه إلهة الحكمة "صوفيا" في المشهد الميثولوجي الغنوصي .
فاذا كان الفلاسفة اليونان كانوا يسمون : محبي او عرفاء إلهة الحكمة صوفيا Philosophia . فإن صوفيا حسب الميثولوجيا الغنوصية هي: النابعة من السكون قد ولدت الذكورة والأنوثة اللذان شكلا عناصر عالمنا المادي.
أما العنصر الأنثوي فقد ولد كلا من الإله "يهوة" إله اليهود والمسيحيين وولد " إيل دابوث" إبن الظلمات. وحين تم خلق البشر وقعت صوفيا في حبهم. الشيء الذي ولد غيرة في قلب الإله يهوة وإله الظلمات فحاولا إبقائهم - أي البشر- في الجهل لذا منع الإله يهوة وأخوه البشر من اكل تفاحة المعرفة (كما في التوراة). ما حدا بالإلهة الأم صوفيا أن تنزل للأرض على شكل أفعى لتخبر البشر كيف يعصون الآلهة الحقودة.
لقد كانت صوفيا تنوي العيش بين الإنسان لكنها صدمت بكون البشر لا يعرفونها رغم حديثها المتكرر إليهم. ويؤمن بعض الغنوصيين المسيحيين أن صوفيا تجسدت في يسوع لكي تتحد مع البشر الذين وقعت في عشقهم.
وحسب دراسة لمخطوطات نجع حمادي التي تركها فرقة من المسيحيين بالبحر الأحمر الشهيرة فإن صوفيا دائما ما يبرز لها دور في خراب العالم وقيامته من جديد. فحسب هذه الرؤية الميثولوجية فقد نبع الملكوت من الآب المتعالي. وهو -اي الملكوت- مشكل من عدة هيئات آخرها صوفيا التي ببعدها عنه -دائما الملكوت- أصبحت أمًّا لخالق الكون المادي وهو "يهوه" إله اليهود في التوراة.
كما أن الرمز الذي تأخذه هذه الإلهة هو رمز الحمامة وهو نفسه رمز الروح القدس أي الله المقابل ليسوع والآب والذي ظل غامضا للتفسير وكأنه شخصية مفروضة فرضا في الرواية كأي موظف شبح. وقد استمر الجدال حول ماهية الروح القدس إلى اللاهوت الإسلامي حيث يذكر القران الكريم سؤال للنبي ص عن الروح : "يسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي" أي أنه ليس إله بل يتنزل بأمر الله .
وفي التراث المسيحي تعتبر مريم المجدلية رمزا لصوفيا الساقطة ومريم العذراء رمزا لصوفيا السماوية.
أن الشخصية المتافيزيقية المدروسة صوفيا والتي يحمل المسجد الحالي اسمها ليست نكرة منسية في تراث غابر بل من أهم الأساطير البدائية التي ابتدعها الإنسان في محطات إيمانه الوثني لهذا رافقته وبشدة في محطات إيمانه التوحيدي.
لهذا نخلص وبوضوح إلى تحديد علمي لهوية البناية الوثنية الرومانية لهذه البناية الأثرية هذه الهوية التي بقيت مأرشفة في شيفرة التسمية كما يحفظ الحمض النووي هويات الكائنات الحية.
الإهمال يحفظ مدينة الزهراء الإسبانية الأثرية من الطمس الهوياتي:
وإدراجها كمثال في هذا المقال مع مثال بناية آية صوفيا لأن الجامع بينهما أن التسمية العربية خلدت رغم العداء الشديد الذي طال كل ماينتمي للثقافة الاسلامية او العربية للمورسكيين. والسر في المحافظة عليها وعلى تسميتها أنها بعد تخريبها بقيت في طي النسيان ولم تر النور من جديد إلا في القرن الماضي وقد قامت الدولة الإسبانية بطلب تسجيلها كتراث عالمي سنة 2018 محتفظة على نفس التسمية أي "المدينة الخليفية لمدينة الزهراء"
عبد الله لحسايني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق